هتلر نائب المدير العام
عدد الرسائل : 15 العمر : 30 تاريخ التسجيل : 06/02/2008
| موضوع: الطُّـــوبْــجــي الثلاثاء فبراير 12, 2008 5:46 am | |
| الطُّـــوبْــجــي “ملعون الوالدين يا الطُوبْجـي، ضعت ورا النسوان! كان لازم تميّل على البير؟” ـ طُوبْجـي.. امسك طُوبْجـي.. هربان طُوبْجـي! دسّ قمبازه في فمه وصك عليه بأسنانه.. تردد لحظة، رمى بالحطة والعقال من على رأسه.. تراجع خطوة ثم التقطهما فحشاهما في الجراب الثقيل المتدلي من حزام جنبه. كان شاباً لفحته الشمس فأضفت على ملامحه المتناسقة وسامة، تردد لحظة ثم انطلق يسابق الأًصوات نزولاً من حيث وقف بينما هي تتابعه، تتباعد وتقترب في ترادف مع إنطلاقه، وتملكه الغيظ من لباسه يعيق حركته وقد اعتاد التحرك في السروال الميري.. كان الهرب والانطلاق فيه أكثر يسراً.. وهل أفاد القمباز وقد عجز عن التخفي فيه عن عيونهم؟.. “ولكنها البئر اللعينة! سنين يالطُوبْجـي لم تر واحدة تشمر ثوبها وتطوبز على البير! آخ.. لحم.. لحم! سنين! بس رحت فيها يا أبو النسوان! “ ـ طُوبْجـي.. ولد طُوبْجـي.. وقف في أمان! "عسكر وأمان ؟!". تحسس رأسه، مسح الندبة البارزة في جبينه! أمان.. ذلك الخطأ لم يستحق هذا العقاب! مرّ على الأثر البارز من جديد!.. كانت المرة الأولى التي يطلب إليه فيها إصابة الهدف!.. تخيل اللحظة طويلاً والمدرب يشرح الأمر من الوجهة النظرية.. وبدا له تحديد الهدف بدقة سهلاً وميسوراً لا يحتاج إلى الكثير من المهارة! واذا بانطلاق الطوبة مختل وجامح وبعيد.. وأقرب منه تلك العصا في يد المدرب هوت على رأسه قبل أن يفيق من صدمة الاكتشاف الأولى لصعوبة التصويب ووضوح الهدف! شهق الزملاء في خوف مع انفلات الشلال القاني، ثم غامت الدنيا في ترادف الجريان الساخن أمام ناظريه!. “ويعدونك بالأمان؟”أصر الضابط في المدرسة الحربية أن يعود للتدريب ولما يلتئم جرحه بعد. فوضع الطوبة في المدفع. ـ ُبم م م م ! ولا يذكر الطُوبْجـي انه أخطأ منذ ذلك اليوم في قذفه الطوبة.. شبح العصا قوّم تصويبه وتحديده ودفعه إلى التفرد والتميز.. ـ برافو طُوبْجـي.. أحسنت طُوبْجـي! ولا يذكر ابراهيم علي متى وكيف ضاع إسمه في غياهب الأيام، ولماذا قرّروا أن يكون الطُوبْجـي.. حاول أن يحدد المسؤول عن ضياع اسمه لأول مرة منذ كان طالب دراسة وتحت التمرين.. هل هو التفرد والتميز في الرمي في المدرسة الحربية! أم ذلك المدرب التركي لم يذكر أسمه قط ومنذ شُجَّ رأسه لم يعرف له اسم الاّ الطُوبْجـي. ابراهيم علي، اسمه الرسمي، لم يصمد.. تسرب من الأيام حتى نسيه في لحظات كثيرة.. ولكن ما بعثره من نداءات وخيالات محمومة نفثها التهاب الرأس وعنف الحمى، ظلت قوية في ذاكرة الرفاق والإخوان.. يتندرون بها عن بئر..ونساء.. وجمال. وتعلم هو أن يبتسم لها. ـ ويا الملعون يا الطُوبْجـي.. من يومك! كل نسوان البلد! هذه البئر ظلت تشده اليها بدافع لا يقاوم!. منذ كان في "المكتب الصبياني" طالباً يافعاً وغريراً. فاللحم البض حين يكشفه اهمال النساء وقلة التحفظ على بئر خالية وبعيدة، يولد فيه احساساً غامراً يستهويه. وبشعوره ذاك توصل لأن يقطع الطريق من بلدته إلى القدس صباحاً بين أشجار الزيتون المتشابكة مختصراً المسافة إلى المدرسة الحربية، بينما جعل العودة عصراً محجاً عبر القفر إلى التفاف الأشجار الثلاث على صخور البئر في طريق اكثر طولاً ووعورة.. ولكنه درب يمتد إلى السيقان المكشوفة بلا حرص، وثياب ترتفع بلا انتباه او تحسب.. وهو طفل يُطلّ لابداً من على الصخور الجرداء بللتها قطرات تناثرت من جرارهن.. ويحلق في عالم غريب. يخدره فيه احساس طاغ ينخر الأوصال فترتخي معه الروح وتعجز عن المطالبة بالمزيد! فينشب العيون في اللحم المكشوف.. حتى اذا ما انطلقن بالماء.. وتمايلت الأجساد تبعها مشدوهاً ومشتعلاً باحساسه الطاغي، في نشوة يذكيها اهتزاز الأرداف. "طاخْ.. طاخْ ". ـ وَلدْ طُوبْجـي ـ سلّم طُوبْجـي! سابق الريح وهي تدفعه هبوطاً على طريق خطّتها أرجل النازلين والصاعدين من الدير القديم. وعثرت عيناه على ذلك الجزء من سقفه الأعلى في الجهة الغربية منه كامناً بين أشجار الصنوبر المتطاولة في مساحة شاسعة التهمت بطن الجبل. “أبونا.. ما في غيره..الخوري يعقوب يا الطُوبْجـي ". فكرة خاطفة داهمته فتعلق بها.. لو وصل سور الدير قبل المغرب وقبل أن يطلق الخوارنة كلاب الحراسة ويغلقوا الأبواب فقد ينجو! تكسر تراكم الأغصان الجافة التي كانت قد ألقيت من على السور وظلت هناك منذ قلموا أشجارهم. مر فوقها، فجرّح يباسها ساقيه واشتبك بعض اطرافها بثيابه ـ ولتمزق القماش صوت كالنعيب حين حررها منه فانقبض. ونزَّ الدم من مساحات يديه وهو يبحث في أكوام الجفاف عن أغلظها جذعاً، فثبته بزاوية حادة ما بين الأرض والسور ووازن حركته فوقه. أطبقت أصابعه على قضبان سياج السور، ودفع بجسده إلى اعلى حين تعالى تفسخ الخشب الجاف قوياً!
لا يذكر يوماً محدداً لمعرفته بالخوري يعقوب. ولكن بلدته كلها عرفته وقربته منها. وناداه شيبها وشبابها “أبونا ". كان شاباً جاء ليعيش في الدير ويعلّم في مدرسة الروم. والطُوبْجـي يافع شدّه إليه اندفاع الشباب وتقدير الآخرين له والتفافهم حوله. الخوري يعقوب وحده اقتنع. وعندما جاءه أبوه مستغيثاً وطالباً للمشورة، أقنعه بضرورة أن يكمل الولد دراسته بعد "المكتب الصبياني". ـ يا أبونا! وأرضي! والفلاحة! أخوه الكبير تعلم فتكبّر، رفض يمشي وراء البغل ويحرث الأرض! مدّيت إيدي عليه لأول مرة.. ضاع في ليلة ما فيها ضو.. أخذ المركب من حيفا، وصار أميركاني.. لبس بنطلون وبرنيطة.. خواجة! ونسي أهله.. يا أبونا ما شفت منه حتى ولا سطر! دبّرني يا أبونا. أنا والأرض وخمس بنات في وجهي.. شو أسوّي؟ الأرض بدها رجال وخِلْفتي طلعت أكثرها بنات! ورضخ والده أمام إصراره واقناع الخوري يعقوب. "لا تضيعه يا أبو اسماعيل مثل ما ضاع أخوه". وإلى المكتب الرشيدي ظلت طريقه تمر بالبئر.. أيام! لم يدرك فيها ابراهيم علي أنه كبر حتى بدأت الفتيات والنساء على البئر يسحبن اثوابهن ويسترن ما بدا منهن اذا مرّ.. وحتى يوم الواقعة! حتى لحظة أن وقف فوق السور لاهثاً ظلت تحيره تلك الدوافع إلى ما حدث! هل هو حديث ذلك الشاعر المولَّه الجريء.. والأستاذ يقول ويعيد.. فإذا البئر القفر تلك الدارة النائية في الأيام.. والنساء فوقها.. ابنة العم وصحبها يخرجن إليه عرايا.. والصور شِعرٌ منقوش بماء الذهب في ذاكرة العصور والأجيال! لم تلمحه في مكمنة وراء الصخرة.. شمّرت ثيابها، ورفعت ساقاً فوق فم البئر، وتسحب الماء فينكشف الكثير! فيما ربطت رفيقتها ثوبها بحزامها ثم رفعته كله، وفخذاها بضان مكتنزان! وضحكتها حين جلجلت ساخرة من غناء الأخرى تلهب الدم حاراً دافقاً بالخدر اللذيد! ثم نظرت إلى البعيد وردّت بموال شجي وحزين.. “فهل دفعك صوتها لأن تفعل ما فعلت؟". لم يطل وقوف المرأتين بعد أن رمت عائشة بدلوها في البئر.. سارتا والأرداف تهتز والأذرع البضة شهية ومكشوفة. “آخ! لماذا فعلتَ ذلك "؟ الصبية لم تكشف شيئاً من ساقيها.. بل ظلت ساهمة مشغولة بما هي فيه. ملامحها تشف عن ارتياح وسعادة.. ولم تحس الخطر حتى انقض عليها مع اختفاء المرأتين في انحدار الوادي.. أطبق بكفيه على الصدر النافر لحظة استدارت جافلة، فسقط الدلو من يدها على قدمها وقدميه. شهقت ثم صرخت مرة واحدة حين رأته، وذابت الدهشة في تصميم قسماتها فجاءَة ومباغتة وتلاحقت حركاتها، أنشبت اظافرها في وجهه. وتصاعد لهيب الألم حاراً لاسعاً من بين ساقيه فصعقه حتى رأسه. اهتزت عائشة مع البئر في تيار الألم العنيف لحظة ركلته مرة أخرى قبل أن يتهاوى ساتراً بيديه موطن الألم فيه. والتراب رطب حين علق بجسده وهو يتلوى عذاباً. ـ يا اللي ما تستحي! والله العظيم اخواني وأهلي بيقتلوك لو عرفوا! ليلتان وهو نهب للكوابيس وأحلام اليقظة، قابعاً في فراشه مبللاً بعرق الخوف والتخيل: "ضربه أبوه حتى شجّ رأسَه "، "وفضحتنا بين الناس "، "وطارده أهلها "، "حتى نغسل عارنا ". والرعب غولٌ يُداهِم الدار! ولكنهم لم يعرفوا. ولحظة يستسلم الطُوبْجـي للأنين الطويل ندماً، تصرخ أمه: ـ الولد بيروح من إيدينا. ولم يُجْدِ البابونج ولا الميرمية. رَقَتْه من العين والحسد، وانخلع وجدانه حين انشقت الشبّة عن جسد إمرأة.. وطامن نفسه حين ذابت فصارت زميلاً غيوراً. تثاءبت أمه ودمعت عيناها حتى ارتخى شدقاها فلم تخرج العين من جسده! تحسس والده رأسه بحدب.. وقال وهو يسوّي ثيابه الجديدة متأهبا للخروج: ـ لن أتأخر! سأذهب في جاهة طلبة عائشة.. بنت أبو علي.. خطبها أحسن شاب في البلد، محمد، إبن حسن الناظر! “صحيح النسوان دواهي.. لقد تصرفت البنت بحكمة لتحمي نفسها من ألسنة الشامتين! .. فكيف يردد أبوه عبارته المأثورة: النسوان ناقصات عقل ودين". مرات قليلة لمح الطُوبْجـي عائشة قبل زواجها وبعده، اكتسى وجهها تجهماً واحتقاراً قبل أن تشيح به عنه. وانحرف هو إلى مكان يختفي فيه ويدفنا ذلك السر الذي بينهما. هذه البئر التي تعرف عنه خبايا نفسه صارت الذكرى تتوق اليها الروح في ليالي الوحدة والرحيل.. الآستانة.. ومرعش.. غرباً وجنوباً إلى أضنة وطرسوس، والنفس مثقلة بالاغتراب في زمهرير الشتاء وقيظ الصيف. وأطياف الذكرى برد وسلام على الروح المتعبة. في طرسوس حين أضنته صور الماضي تلح حتى ذاب منه الاحتمال، قرر أن يهرب! لم يطق انتظار العسكر لعدو لا يظهر.. والخوف من أشباح لاتبين، وتدريب وتدريب.. وطوبة لا تخطيء، وشظف العيش في الليالي الرتيبة، بينما القرية البعيدة في اغترابه تكبر وتحلو. طرقها المتربة الضيقة اتسعت فابتلعت دروب المدن والعسكر. وبيوتها الصغيرة شعّت بالدفء فصارت أجمل من قصور وسرايا مرّ بها. ستة أشهر وهو يلاحق الذكرى متخفياً. أحكم ربط صرته على بطنه فالتصقت بثقل الليرات العثمانلية الخمسين. تماماً تحت سترته، وظلت المجيديات القليلة في جيوبه يتدبر بها أمره! ستة شهور حبلى بالكوابيس والتهيّب والحذر! ستة شهور والولادة المنتظرة تقترب.. والبئر اللعينة تطل متوحدة تزخر بالصور وتغريه بالدعوة.. تمدد بتعبه في ظل زيتونة منتظراً.. والطريق خالية إلاّ من أزير الصراصير وقيظ الظهيرة.. أسند رأسه إلى جذع الشجرة! وثقلت أجفانه بالترقب! فرك عينيه مرات، وإذا أضغاث الأحلام حقيقة ، وصراخ الكوابيس واقع. ـ ملعون طُوبْجـي.. هربان طُوبْجـي.. ستة شهور ولد هربان! في أمان طوبجي.. سلّم طُوبْجـي. ولصوت ارتطام جسده بالأرض عنف وقوة حين ألقاه على الممر الحجري.. توقفت أصوات العصافير لحظة جفلت لوقوعه، ثم تعالى صياحها من جديد، فلملم عظامه منطلقاً على بلاط الممر المتعرج الضيق حتى باب الدير. المكان موحش وساكن إلاّ من لهف طرقاته على الباب الحديد الثقيل.. ثم تذكر الجرس.. سحب الحبل المتدلي فانطلق رنينه ودوّى صداه في الممرات الخرساء التي طالما جابها مع الخوري يعقوب، او عَبَرها طفلاً وحيداً في طريقه إلى مستوصف الدير لبرء جرح أو زكام! تراكض بعض الكهنة حاسري الرؤوس متسائلين في دهشة، وأطلت رؤوس أخرى من نوافذ الدير الضيقة التي باغتها الرنين. ازداد احمرار وجه الرئيس حين شق طريقه بينهم إليه وأدرك عمن يسأل : ـ لماذا تريد الخوري يعقوب! ـ صديقي! نعم.. صديقي.. وأريد أن يحميني من العسكر ورائي.. هربت من الجندية ! ـ نحن رجال دين.. لا نريد مشاكل مع العسكرالأتراك! تلفت الكهنة الصغار في حيرة حين اقترب ضجيج العسكر في الممرات.. وخبت جذوة الحماس لنجدته مع تحجر التعابير على وجه الرئيس.. نبحت كلاب الدير في مرابطها.. والوجوه حوله متفهمة وعاجزة وتخشى رئيس الدير. انفلت الطُوبْجـي باتجاه اليمين حين برز الجندي الأول في نهاية الممر، بينما الخطوات تتسارع وتقترب، تسابقه، ثم تدركه. ـ يا أخي.. لا تخف.. توقف! واذا بالخوري وراءه.. شاب مثله. ـ أبونا يعقوب في الحجز.. ثار على الرئيس اليوناني، أراد أن تكون الصلاة بالعربية لا باليونانية.. ألّب الناس والكهنة على اليونان.. حاكموه وحبسوه بتهمة التمرد، أركض!. السور من هنا يطل على ربوة.. أهرب! فك الحزام من على وسطه وسحبه من طيات ثيابه مع اقتراب الضجيج. والخوري يتابعه في دهشة. ـ أبونا، خذ هذا الحزام. فيه خمسين ليرة عثمانلية.. أعطيها لأبو اسماعيل!.. ـ ابو الطُوبْجـي؟ أبو الطُوبْجـي؟ اتعرفه؟. هز رأسه ايجاباً. ـ قل له يا أبونا: الطُوبْجـي ببوس إيدك.. وبيسلم عليك وعلى الوالدة.. رفع ذراعيه مستسلماً، وسار راجعاً باتجاه العسكر.
| |
|
هتلر نائب المدير العام
عدد الرسائل : 15 العمر : 30 تاريخ التسجيل : 06/02/2008
| موضوع: رد: الطُّـــوبْــجــي الثلاثاء فبراير 12, 2008 5:48 am | |
| مع تحيات المصرى ان هذه الرواية حقيقية | |
|